بعض مساهمات رجال البحر في نشأة الأرصاد الجوية الحديثة
لقد أصبحت نشرات الأرصاد الجوية تكتسي أهمية
كبيرة ليس فقط في مجال السلامة بل و في مزاولة العديد من الأنشطة الإقتصادية
(الفلاحة، الملاحة الجوية و البحرية،السياحة و الرحلات، الصيد البحري،...) و لدى
الكثير من شرائح المجتمع. هذا بفضل المصداقية و الدقة التي بلغتها التوقعات التي
تصدرها مصالح الأرصاد الجوية. و قد ساهم في ذلك إعتماد هذه المصالح على وسائل جد
متطورة كالرادارات، الأقمار الإصطناعية، محطات أوتوماتيكية، حواسيب عملاقة، إضافة
اعتمادها على كفاءات بشرية ذات تكوين عال. لكن الكثير من الناس يجهلون تاريخ
الأرصاد الجوية و كيفية نشأتها لتصبح علما قائما على أسس علمية و يحظى بمكانة وسط
العلوم الأخرى. و الحقيقة التي يجهلها أغلب الناس و التي لا يجادل في صحتها أحد هي
أن الأرصاد الجوية بدأت على سطح البحار و المحيطات و بمساهمة كبيرة من رجال البحر
أواسط القرن التاسع عشر. لكن كيف تم ذلك؟
و ما هي المراحل و الأحداث المهمة التي أدت إلى ذلك؟ و من هم بعض أولئك
البحارة الكبار الذين و ضعوا بصماتهم في تاريخ الأرصاد الجوية الحديثة؟ تلك هي بعض
من الأسئلة التي سيحاول هذا المقال الإجابة عنها بطريقة مختصرة.
1-
بعض الضروف العامة التي ساهمت في تشأة
الأرصاد الجوية:
ساهمت ثلاثة عوامل أساسية خلال القرن التاسع
عشر في ازدياد الإهتمام برصد أحوال الطقس على الصعيد الدولي و هي:
أولا: إزدهار الملاحة البحرية:
خلال القرن 19 الميلادي عرفت الملاحة البحرية
بين القارة الأوربية و القارة الأمريكية تطورا كبيرا. و قد زاد إكتشاف الدهب في
أمريكا من وثيرة هذا النشاط البحري. و كان أغلب تلك الرحلات يتم بواسطة السفن
الشراعية التي تعتمد على القوة الدافعة للرياح. و بالموازات مع ذلك ، كانت هنالك
الرحلات التي تتم عبر السفن البخارية. لكنها كانت مكلفة مقارنة بالشراعية و
استقلالها الذاتي من الوقود كان محدودا. من هنا جاءت الفكرة أن المعرفة الجيدة
لأنظمة الرياح السائدة على سطح المحيطات سيساعد بشكل كبير في تحسين مستوى السلامة
في البحر و المساهمة في إختصار و قت الرحلات البحرية. هذه الفكرة السالفة كانت
المحرك الرئيسي لنشأة الأرصاد الجوية.
ثانيا: التطور في مجال الإتصالات:
في 1841م و بفضل التطور العلمي تم إبتكار
التلغراف الكهربائي في الولايات المتحدة. و بفضل هذا الإختراع أصبح ممكنا التواصل الآني
عن بعد و تبادل المعلومات. كما أن أواخر القرن 19 عرف أيضا بداية استعمال موجات
الراديو في مجال الإتصال عن بعد. هذه الإختراعات سرعت في خلق شبكة للرصد الجوي
خاصة في الولايات المتحدة و أوربا. و بعد ذلك فهم العلماء أن معرفة حالة الجو على
نطاق شاسع سيمكن من توقع حالة الطقس في مكان محدد و ذلك عن طريق معرفة أحوال الجو
في المناطق المجاورة.
ثالثا:
وقوع حوادث بحرية جراء أحوال الجو السيئة:
ساهمت
في زيادة الإهتمام بموضوع الرصد الجوي وقوع بعض الحوادث البحرىة بسبب سوء الأحوال
الجوية التي خلفت العديد من الضحايا. ففي نونبر من 1854 أغرقت عاصفة قوية 38 سفينة
تحمل جيوش من جنسيات مختلطة (فرنسية-إنجليزية-تركية) في البحر الأسود خلال معركة القرم التي دارت
بين روسيا من جهة و التحالف فرنسا-إنجلترا-تركيا من جهة أخرى. كما أنه و في سنة
1855م تعرضت باخرة فرنسية في البحر المتوسط للغرق. في هذه أيضا كانت سوء الأحوال
الجوية هي السبب و نتج عن هذا الحادث فقدان 700 من البحارة و العسكريين. و سنة 1859 م
غرق مركب إنجبيزي (Royal Charter)
قبالة السواحل الإنجليزية مما أدى الى فقدان 450 شخص.
2-
بعض مساهمات رجالات البحر في تأسيس و نشأة
علم الأرصاد الجوية:
أولا: إطلاق التعاون الدولي في مجال الرصد
الجوي:
في شهر غشت من سنة 1853 تم عقد أول ندوة
دولىة حول الأرصاد الجوية بمبادرة من ضابط البحرية الأمريكية ماتيو فونتين موري.
إلتأم المشاركون الإثنا عشر في العاصمة البلجيكية بروكسيل و كانوا يمثلون الدول الآتية:
بلجيكا، الدانمارك، الولايات المتحدة، فرنسا، إنجلترا،
النرويج،هولاندا،البرتغال،روسيا، السويد. وكان أغلب المشاركين ضباطا في البحرية
(10 مشاركين). تم خلال هذا اللقاء توحيد طريقة القيام بالرصدات الجوية في البحر و
ترتيب الوثائق المخصصة لدلك.
ثانيا: المساهمة في تطوير الأرصاد الجوية
لمجموعة من الدول الكبرى:
سنذكر هنا مثالا
يبين ذلك متعلق بالأرصاد الجوية في إنجلترا. تأسس مكتب الأرصاد في المملكة المتحدة
سنة 1850 و قد عين الأميرال فيتزروي (FitzRoy) الذي كان يعمل في البحرية أول
مدير له. هذا المكتب كان يقوم بجمع بيانات حالة الطقس في البحر، وأصبح هذا المكتب
فيما بعد أول مركز خدمات عامة للأرصاد الجوية
الوطنية في العالم. ونشرت أول تنبؤات جوية يومية أعدها مكتب فيتزروي، في
صحيفة نيويورك تايمز في 1860.
ثالثا: وضع الخرائط الأولى لأنظمة الرياح و
التيارات البحرية:
سنذكر هنا مثالين
على ذلك:
في الولايات
المتحدة: استطاع ضابط البحرية ماتيو فونتين من نشر مجموعة من خرائط الرياح و
التيارات البحرية فوق المحيط الأطلسي(pilot charts) سنة 1848م. هذه المعلومات مكنت من ربح الكثير من الوقت
للقيام بالرحلات عبر المحيط الأطلسي. كما أن الإرشادات التي قدمها مكنت من اختصار وقت
الرحلات بين أوربا و استراليا ب36%.
في فرنسا: ساهم ضابط البحرية ليون برومت (Léon
Brault)
في وضع مجموعة من الخرائط التي تصف أنضمة الرياح فوق المحيط الأطلسي و ذلك سنة
1869م.
رابعا: القيام بالرصد
الجوي و جمع المعطيات الخاصة بالبحر:
يعتبر البحارة من
الأوائل الذين كانوا يقومون بالرصدات الجوية في البحر حيث كانوا يدونون المعلومات
المرتبطة بأحوال الجو في صحف الرحلات(Journaux de bord). و مع التطور العلمي أصبحوا
يعتمدون على أجهزة مختلفة لقياس مختلف عوامل الجو كالضغط الجوي، الحرارة،الرياح،..إلخ
و كذلك حالة البحر و التيارات البحرية. هذه المعطيات التي كانوا يحصلون عليها
أصبحت تدون في كتيبات معدة لهدا الغرض و حسب ترتيب محدد. و مع تطور التعاون الدولي
في هذا المجال تكون ما أصبح يطلق عليه فيما بعد نظام السفن التجارية المتطوعة للرصد
الجوي (Voluntary Observing System).
3- بعض رجال البحر الذين ساهموا في تطوير الأرصاد الجوية:
لقد ساهم العديد من الشخصيات البحرية في وضع
الأسس الأولى للأرصاد الجوية. حيث استطاعوا وضع قواعد تطبيقية للتنبؤ بالطقس
انطلاقا من الخبرات التي اكتسبوها خلال الرحلات البحرية و كذلك قيامهم بتشكيل
النواة الأولى لشبكة الأرصاد الجوية العالمية. لكن لا يسع المجال هنا للحديث عنهم
جميعا لذلك سنكتفي ببعض الأسماء المعروفة على الصعيد العالمي.
الأميرال فرانسيس بوفور(Francis Beaufort):
أميرال في البحرية البريطانية دو أصول إرلندية
(1774-1857م). هو من أنشأ مقياس بوفور لقياس شدة الرياح في البحر و ذلك سنة 1806م.
يعتمد هذا المقياس على ملاحظة تغيرات حالة الأمواج و تأثير الرياح على أشرعة السفن
من أجل تقدير قوة الرياح. هذا السلم مكن من توحيد الرصدات المتعلقة بقوة الرياح و
يتكون من 13 درجة (الدرجة الأولى: سكون،الدرجة الأخيرة: إعصار).
ضابط البحرية الأمريكية ماتيو فونتين موري(Matthew-Fontaine Maury):
ضابط بحار في البحرية الأمريكية ذو أصول
فرنسية (1806-1873م). بعد أن تعرض لحادث خطير سنة 1839م أبعده عن البحر ليكلف
بمخزن الخرائط و الأجهزة. ساهم بشكل كبير في تطوير الأنشطة التي تقوم بها تلك
المصلحة و وضع الأسس الأولى للمرصد البحري (Naval Observatory)
و مكتب الخرائط البحرية (Hydrographic
Office). نشر
العديد من خرائط الرياح و التيارات البحرية التي كانت ذات أهمية كبيرة في مجال
الملاحة البحرية حيث مكنت من ربح وقت كبير خلال الرحلات الطويلة. أطلقت عليه مجموعة
من الألقاب من بينها "أب الأرصاد الجوية الحديثة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق